الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)} يقول الحق جلّ جلاله: {أم يقولون} أي: بل أيقولون {افْتَرى} محمد {على اللهِ كذباً} في دعوة النبوة، أو القرآن؟ والهمزة للإنكار التوبيخي، كأنه قيل: أيمكن أن ينسبوا مثله عليه الصلاة والسلام للافتراء، لا سيما لعظم الافتراء، وهو الافتراء على الله، فإن الافتراء إنما يُسام به أبعد خلق الله، ومَن هو عرضة للختم والطبع، فالعجب ممن يفوه به في جانب أكرم الخلق على الله. {فإِن يشإِ يختمْ على قلبك}، هذا استبعاد للافتراء على مثله؛ لأنه إنما يجترىء على الله مَن كان مختوماً على قلبه، جاهلاً بربه، أمَّا مَن كان على بصيرة ومعرفة بربه، فلا، وكأنه قال: إن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك، لتجترىء بالافتراء عليه، لكنه لم يفعل فلم تفتر. أو: فإن يشأ الله عدم صدور القرآن عنك يختم على قلبك، فلم تقدر أن تنطق بحرف واحد منه، وحيث لم يكن كذلك، بل تواتر الوحي عليك حيناً فحيناً؛ تبين أنه من عند الله تعالى. وهذا أظهر. وقال مجاهد: إن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم، وعلى قولهم: افترى على الله كذباً؛ لئلا تدخله مشقة بتكذيبهم. ه. {ويَمْحُ اللهُ الباطلَ ويُحِقُّ الحقَّ بكلماته}، استئناف مقرر لنفي الافتراء، غير معطوف على «يختم» كما ينبىء عنه إظهار الاسم الجليل، وإنما سقطت الواو كما في بعض المصاحف لاتباع اللفظ، كقوله تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ...} [الإسراء: 11] مع أنها ثابتة في مصحف نافع. قاله النسفي. أي: ومن شأنه تعالى أن يمحق الباطل، ويثبت الحق بوحيه، أو بقضائه، كقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء: 18]، فلو كان افتراء كما زعموا لمحقه ودمغه. أو: يكون عِدةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تعالى يمحو الباطل الذي هم عليه، ويثبت الحق الذي هو عليه صلى الله عليه وسلم بالقرآن، أو بقضائه الذي لا مرد له بنصره عليهم، وقد فعل ذلك، فمحا باطلهم، وأظهر الإسلام. {إِنه عليم بذاتِ الصدور} أي: عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك من المحو والإثبات. {وهو الذي يقبل التوبةَ عن عباده}. يقال: قبلت الشيء منه: إذا أخذته منه، وجعلته مبدأ قبولك، وقبلتَه عنه، أي: عزلته وأبنته عنه. والتوبة: الرجوع عن القبيح بالندم، والعزم ألا يعود، ورد المظالم واجب غير شرط. قال ابن عباس: لما نزل. {قل لا اسألكم عليه أجراً...} الآية. قال قوم في نفوسهم: ما يريد إلا أن يحثنا على أقاربه من بعده، فأخبر جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنهم قد اتهموه، وأنزل: {أم يقولون افترى على الله كذباً...} الآية، فقال القوم: يا رسول الله؛ فإنا نشهد أنك صادق. فنزل: {وهو الذي يقبل التوبة...} ه. قال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد، ومن العقيم الوالد، ومن الظمآن الوارد، فمَن تاب إلى الله توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه، ولو كانت بقاعُ الأرض خطاياه وذنوبه». واختلف العلماء في حقيقة التوبة وشرائطها، فقال جابر بن عبد الله: دخل أعرابي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم إني أستعيذك وأتوب إليك، سريعاً، وكبّر، فلما فرغ من صلاته، قال له عليّ: ما هذا؟ إن سرعة الاستغفار باللسان توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة، فقال: يا أمير المؤمنين، وما التوبة؟ قال: أسم يقع على ستة معانٍ: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة، كما أذبتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. وعن السدي: هي صدقُ العزيمة على ترك الذنوب، والإنابة بالقلب إلى علاّم الغيوب. وعن سهل: هي الانتقالُ من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وعن الجنيد: هي الإعراض عما سوى الله. قال الله تعالى: {ويعفو عن السيئاتِ} وهو ما دون الشرك، يعفو لمَن يشاء بلا توبة، {ويعلم ما تفعلون} كائناً ما كان، من خير أو شر، حسبما تقتضيه مشيئته. {ويستجيبُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي: يستجيب لهم فحذف اللام كما في قوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ} [المطففين: 3] أي: يجيب دعوتهم، ويثيبهم على طاعتهم، أو: يستجيبون له بالطاعة إذا دعاهم إليها. قيل لإبراهيم بن أدهم: ما لنا ندعو فلا نُجاب؟ قال: «لأنه دعاكم فلم تُجيبوا». {ويَزِيدُهُمْ من فضله} على ما سألوه، واستحقوه بموجب الوعد. {والكافرون لهم عذابٌ شديد} بدل ما للمؤمنين من الفضل العظيم والمزيد. الإشارة: قال الورتجبي: {أم يقولون افترى على الله كذباً} فيه تقديس كلامه، وطهارة نبيه صلى الله عليه وسلم عن الافتراء، وكيف يفتري وهو مصون من طريان الشك والريب والوساوس والهواجس على قلبه؟ وقال أيضاً: عن الواسطي: إن يشأ الله يختم على قلبك لكن ما يشاء، ويمح الله الباطل بنفسه ونعته، حتى يعلم أنه لا حاجة له إلى أحد من خلقه، ثم يحقق الحق في قلوب أنشأها للحقيقة. قلت: في الآية تهديد لأهل الدعوى؛ لأنهم إن داموا على دعواهم الخصوصية بلا خصوصية؛ ختم الله على قلوبهم بالنفاق، ثم يمحو الله الباطل بأهل الحق والتحقيق، فتُشرق حقائقهم على ما يقابلها من البال فتدمغه بإذن الله وقضائه وكلماته. وقوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده...} الخ، لكل مقام توبة، ولكل رجال سيئات، فتَوبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من العيوب، وتوبة خواص الخواص من الغيبة عن شهود علاّم الغيوب. وقوله تعالى: {ويعلم ما تفعلون} يشير إلى الحلم بعد العلم. وقوله تعالى: {ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي: في كل ما يتمنون، {ويزيدهم من فضله} النظر إلى وجهه، ويتفاوتون فيه على قدر توجههم، ومعرفتهم في الدنيا. وذكر في القوت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {ويزيدهم من فضله} قال: «يُشفعهم في إخوانهم، فيدخلهم الجنة» ه. قال القشيري: ويقال: لمَّا ذكر أن التائبين يقبل توبتهم، ومَنْ لم يَتُبْ يعفو عن زلَّته، والمطيع يدخله الجنة، فلعله خطر ببال أحد: فهذه النار لمَن هي؟ فقال {والكافرون لهم عذاب شديد}، ولعله يخطر بالبال أن العصاة لا عذاب لهم، فقال: (شديد) بدليل الخطاب أنه ليس بشديد ه.
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)} يقول الحق جلّ جلاله: {ولو بَسَطَ اللهُ الرزقَ لعباده} أي: لو أغناهم جميعاً {لَبَغوا في الأرض} أي: لتَكَبروا وأفسدوا فيها، بطراً، ولعلا بعضُهم على بعض بالاستعلاء والاستيلاء، لأن الغِنى مبطرة مفسدة، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة. وأصل البغي: تجاوز الاقتصاد عما يجزي من حيث الكمية أو الكيفية. {ولكن يُنَزِّل بِقَدرِ} أي: بتقدير {ما يشاء} أن ينزله، مما تقضيه مشيئته. يقال: قدره وقدّره قدراً وتقديراً {إِنه بعباده خبير بصير}؛ محيط بخفايا أمورهم وجلاياها، فيقدر لكل واحد منهم ما يليق بشأنه، فيُفقر ويُغني، ويُعطى ويَمنع، ويقبض ويبسط، حسبما تقتضيه الحكمة الربانية، ولو أغناهم جميعاً لَبَغوا في الأرض، ولو أفقرهم لهلكوا، وما ترى من البسط على مَن يبغي، ومِن البغي بدون البسط، فهو قليل، ولكن البغي مع الفقر أقلّ، ومع البسط أكثر وأغلب، فالحكمة لا تنافي بغي البعض بدفعه بالبعض الآخر، بخلاف بغي الجميع. {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ...} [الحج: 40] الآية. وقال شفيق بن إبراهيم: {لو بسط الله الرزق لعباده} أي: لو رزق الله العباد من غير كسب {لبغوا}؛ طغوا وسَعَوا في الأرض بالفساد، ولكن شغلهم بالكسب والمعاش، رحمة منه. ه. أي: لئلا يتفرّغوا للفساد، ومثله في التنوير. وقال شيخ شيوخنا الفاسي العارف: والظاهر حمل العباد على الخصوص المصْطَفين من المؤمنين، فإنهم يحمون من الطغيان وبسط الرزق؛ لئلا يبغوا. ه. وقال قتادة: كان يقال: خير الرزق: ما لا يطغيك، ولا يلهيك، فذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها» ه. رُوي أن أهل الصُّفة تمنوا الغنى، فنزلت. وقيل: نزلت في العرب، كانوا إذا أخصبوا تحاربوا، وإذا جدبوا انتجعوا. ه. {وهو الذي يُنَزِّل الغيث} أي: المطر الذي يُغيثهم من الجدب، ولذا خصّ بالنافع منه، فلا يقال للمطر الكثير: غيث، {من بعد ما قنطوا}: يئسوا منه. وتقييد تنزيله بذلك، مع نزوله بدونه أيضاً؛ لمزيد تذكُّر كمال النعمة. {وينشُرُ رحمتَه} أي: بركات الغيث ومنافعه، وما يحصل به من الخصب في كل مكان، من السهل، والجبل، والنبات، والحيوان. أو: رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر وغيره. {وهو الوليُّ} الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة، {الحميدُ}؛ المستحق للحمد على ذلك، لا غيره. الإشارة: عادته تعالى مع أوليائه أن يعطيهم ما يكفيهم بعد الاضطرار، ويمنعهم منه فوق الكفاية؛ لئلا يشغلهم بذلك عن حضرته، وفي الحديث: «إن الله يحمي عبده المؤمن أي: مما يضره الدنيا وغيرها كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة» وفي حديث آخر: «إذا أحبّ الله عبداً حماه الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء» ورَوى ابن المبارك، عن سعيد بن المسيب قال: جاء رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة؟ فقال: «هم الخائفون، الخاضعون، المتواضعون، الذاكرون كثيراُ» فقال: يا رسول الله؛ فهم أول الناس يدخلون الجنة؟ قال: «لا» قال: فمَن أول الناس دخولاً الجنة؟ قال: «الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة، فيخرج إليهم ملائكة، فيقولون: ارجعوا إلى الحساب، فيقولون: علام نحاسب؟ والله ما أفيضت علينا الأموال فنفيض فيها، وما كنا أمراء نعدل ونجور، ولكنا جاءنا أمره فعبدنا حتى أتانا اليقين» ه. قوله: {وهو الذي يُنزل الغيث...} الآية، كما ينزل غيث المطر على الأرض الميتة، ينزل أمطار الواردات الإلهية على القلوب الميتة، فتحيا بالذكر والمعرفة، بعد أن أيست من الخصوصية. قال القشيري: بعد كلام: وكذلك العبد إذا ذَبُلَ غُصْنُ وقته، وتكَدَّرَ صَفْو ودّه؛ وكسفت شمس أُنسِه، وبَعُدَ عن الحضرةِ وساحاتِ القرب عَهْدُه، فربما ينظر إليه الحقُّ نظر رحمة، فينزل على سِرِّه أمطارَ الرحمة، ويعود عودُه طريّاً، ويُنْبِتُ في مشاهد أُنْسِه ورداً جَنِياً، وأنشدوا في المعنى: إنْ راعني منك الصُدود *** فلعلَّ أيامي تعود ولعل عهدك باللِّوى *** يحيا فقد تحيا العهود والغُصن ييبس تارةً *** وتراه مُخْضرّاً يميد وقوله تعالى: {وهو الوليّ} قال القشيري في شرح الأسماء: الولي هو المتولي لأحوال عباده، وقيل معناه: المناصر، فأولياء الله أنصار دينه، وأشياع طاعته، والوليّ في صفة العبد: هو مَن يواظب على طاعة ربه، ومن علامات مَن يكون الحق سبحانه وليَّه: أن يصونه ويكفيه في جميع الأحوال، ويؤمنه، فيغار على قلبه أن يتعلق بمخلوق في دفع شر أو جلب نفع، بل يكون سبحانه هو القائم على قلبه في كل نَفَس، فيحقق آماله عند إشارته، ويجعل مآربه عند خطراته. ومن أمارات ولايته لعبده: أن يديم توفيقه، حتى لو أراد سوءاً، أو قصد محظوراً، عصمه من ارتكابه. ثم قال: ومن أمارات ولايته: أن يرزقه مودة في قلوب أوليائه. ه. قلت: «جعل مآربه عند خطراته: ليس شرطاً؛ لأن هذا من باب الكرامة، ولا يشترط ظهورها عند المحققين. ورَوى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل، عن ربه عزّ وجل قال:» مَن أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي، وإني لأغضب لهم، كما يغضب الليث الحَرِد «انظر بقية الحديث في الثعلبي.
{وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} يقول الحق جلّ جلاله: {ومن آياته} الدالة على باهر قدرته ووحدانيته {خلقُ السماواتِ والأرض} على ما هما عليه من تعاجيب الصنعة، فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه العظيمة، {وما بثَّ} أي: فرّق {فيهما من دابةٍ}؛ من حي على الإطلاق، فأطلق الدابة على مطلق الحيوان، ليدخل الملائكة. أو: ما يدب على الأرض، فإن ما يختص أحد الشيئين المجاورين يصح نسبته إليهما، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج المرجان من الملح، ولا يبعدُ أن يخلق الله في السموات حيواناً يمشون مشي الأناسيّ على الأرض، أو: يكون للملائكة مشي مع الطيران، فوصفوا بالدَّبيب لذلك. {وهو على جَمْعِهم} أي: حشرهم بعد البعث للحساب {إِذا يشاء} أي: في الوقت الذي يشاء {قديرٌ} لا يعجزه شيء. الإشارة: مِن تعرفاته: إظهار السموات والأرض، وهذه رسوم المعاني، وما بثّ فيهما من دابة، وهذه أشكال توضح أسرار المعاني، فإذا قبضت المعاني محيت الرسول والأشكال. وقوله تعالى: {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير}، قال القشيري: الإشارة في هذا: أنَّ الحقَّ تعالى يغار على أوليائه أن يَسْكنَ بعضُهم بقلبه إلى بعض، فأبداً يُبَدّدُ شملهم، ولا يكاد تتفق الجماعة من أهل القلوب إلا نادراً، وذلك أيضاً مدة يسيرة، كما أنشدوا: رمى الدهرُ بالفتيان حتى كأنَّهم *** بأكنافِ أطرافِ السماء نجومُ وقد يتفضَّل تعالى باجتماعهم في الظاهر، وذلك وقت نظر الحقّ بفضله إلى العالَم، وفي بركات اجتماعهم حياةُ العالَم، وإذ كان قادراً فهو على جمعهم إذا يشاء قدير. ه. قلت: مما جرت به عادة الله تعالى في أوليائه: أنه لا يجتمع في موضع واحد منهم اثنان فأكثر إلا قام أحدهما بالآخر، ويفقد نظامهما، فلا تكاد تحد أهل النور القوي إلا متباعدي الأوطان، لئلا يطفي نور إحداهما نورَ الآخر، وقد يجتمعون نادراً في وقت مخصوص، وذلك وقت النفحات. كما تقدّم للقشيري.
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)} يقول الحق جلّ جلاله: {وما أصابكم من مصيبةٍ} غمّ، أو ألم، أو مكروه {بما كسبتْ أيديكم} أي: بجنايةٍ كسبتموها، عقوبةً لكم. ومَن قرأ بالفاء؛ ف «ما» شرطية. ومَن قرأ بغيرها فموصلة. وتَعَلقَ بهذه الآية من يقول بالتناسخ، ومعناه عندهم: أن أرواح المتقدمين حين تموت أشباحها تنتقل إلى أشباح أُخر، فإن كانت صالحة انتقلت إلى جسم صالح؛ وإن كانت خبيثة انتقلت إلى جسم خبيث، وهو باطل وكفر. ووجه التعلُّق: أنه لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألّموا. ويجاب: بأن تألم الأطفال إما زيارة في درجات آبائهم إن عاشوا، أو في درجاتهم إن ماتوا؛ لأنهم يلحقون بآبائهم في الدرجة، ولا عمل لهم إلا هذا التألُّم. والله أعلم. والآية مخصوصة بالمكلّفين بدليل السياق وهو قوله: {ويعفو عن كثير} أي: من الذنوب فلا يُعاقب عليها، أو: عن كثير من الناس، فلا يعاجلُهم بالعقوبة. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «واللهُ أكرم من أن يُثَنّي عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا عنه فالله أحلم من أن يعود فيه بعد عفوه» وقال ابن عطاء: مَن لم يعلم أنَّ ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه، وأن ما عفا عنه مولاه أكثر، كان قليل النظر في إحسان ربه إليه. وقال محمد بن حامد: العبدُ ملازِمٌ للجنايات في كلّ أوان، وجناياته في طاعته أكثر من جناياته في معاصيه؛ لأن جناية المعصية من وجه، وجناية الطاعة من وجوه، والله يُطهِّر العبد من جناياته بأنواع من المصائب ليخفّف عنه أثقاله في القيامة، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة. وعن عليّ كرّم الله وجهه: هذه أرجى آيةٍ للمؤمنين في القرآن؛ لأنّ الكريمَ إذا عاقب مرةً لا يُعاقِب ثانياً، وإذا عفا لا يعود. ه. وقد تقدّم حديثاً. قال في الحاشية الفاسية: قلت: وإنما يعفو في الدنيا عما يشاء، ويؤخر عقوبة مَن شاء إلى الآخرة، فلا يلزم إبطال وعيد الآخرة. ثم الآية إما خاصة بالحدود، أو بالمجرم المذنب، وأما مَن لا ذنب له فما يُصيبه من البلاء اجتباء، وتخصيص، لا تمحيص. ه. قلت: لكل مقام ذنب، حسنات الأبرار سيئات المقربين، فالتمحيص جار في كل مقام، وراجع ما تقدم عند قوله: {لَّقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ...} [التوبة: 117] وسيأتي عند قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ...} [محمد: 19] ما يبين هذا. والله أعلم. {وما أنتم بمعجزين في الأرض} أي: ما أنتم بفائتين ما قُضيَ عليكم من المصائب، وإن هجرتم في أقطارها كل مهرب، {وما لكم من دون الله من وليّ} متولِّ يحميكم منها {ولا نصيرٍ} يدفعها عنكم، أو يدفع عذابه إن حلّ. الإشارة: إذا كان العبد عند الله في عين العناية أدّبه في الدنيا، ويبقى في حال قربه، وإذا كان عنده في عين الإهمال؛ أمهل عقوبته إلى دار البقاء، وربما استدرجه بالنعم في حال إساءته، والعياذ بالله من مكره. وإذا علم العبد أن ما يصيبه في هذه الدار من الأكدار كلها تخليص وتمحيص؛ لم يستوحش منها، بل يفرح بها؛ إذ هي علامة العناية، وإذا كانت على أيدي الناس، لم يقابلهم بالانتصار، بل يعفو ويصفح؛ لعِلمه أن ذلك زيارة وترقية. وقوله تعالى: {ويعفو عن كثير} هذا والله أعلم في حق العامة، وأما الخاصة؛ فيشدد عليهم المحاسبة والتأديب؛ ليرفع مقامهم، ويُكرم مثواهم.
{وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)} يقول الحق جلّ جلاله: {ومن آياته} للدلالة على قدرته ووحدانيته {الجواري} السفن الجارية {في البحر كالأعلام}؛ كالجبال {إِن يشاء يسكن الرياح} التي تجريها. وقرىء بالإفراد. {فيَظْلَلن رواكدَ على ظهره}؛ فيبقين ثوابت على ظهر البحر، أي: غير جاريات لا غير متحركات أصلاً، {إِن في ذلك لآيات} عظيمة في أنفسها، كثيرة في العدد، دلالة على باهر قدرته {لكل صَبَّارٍ شكورٍ}؛ لكل مَن حبس نفسه عن الهوى، وصرف همته إلى النظر في آلائه، أو: لكل صبّار على بلائه، شكور لنعمائه، أي: لكل مؤمن كامل؛ فإن الإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر؛ لأن الإنسان لا يخلو من ضر يمسه، أو نفع يناله، فآداب الضر: الصبر، وآداب النفع: الشكر، وأيضاً: راكب السفن ملزوم، إما للمشقة أو السلامة، فالصبر والشكر لا زمان له. ولم يعطف إحدى الصفتين على الأخرى؛ لأنهما لموصوف واحد. {أو يُوبِقْهُنَّ} أي: يهلكهن، عطف على قوله: {يُسكنِ} أي: إن يشأ يُسكن الريح فيركدن، أو يعصفها فيغرقن بعصفها {بما كسبوا} من الذنوب. وإيقاع الإيباق عليهم مع أنه حال أهلهن؛ للمبالغة والتهويل، {ويعفُ عن كثيرٍ} منها، فلا يُجازي عليها، وإنما أدخل العفو في حكم الإيباق، حيث جُزم جزمَه؛ لأن المعنى: أو إن يشأ يُهلك ويُنج ناساً، على طريق العفو عنهم. وقرىء: «ويعفو» عن الاستئناف. {ويَعلَمَ الذين يجادلونَ في آياتنا} أي: في إبطالها وردها {ما لهم من محيصٍ}؛ من مهرب من العذاب. والجملة معلقة بالنفي، ومن نصب «يعلم» عطفه على عِلة محذوفة، أي: لينتقم منهم وليعلم، كما في قوله: {وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلنَّاسِ} [مريم: 21]. وقيل غير ذلك. ومَن رفعه فعلى الاستئناف. وقرىء بالجزم، عطفاً على: «يعف»، فيكون المعنى: أو إن يشأ يجمع بين إهلاك قوم وإنجاء آخرين وتحذير قوم. الإشارة: ومن آياته الأفكار الجارية في بحر التوحيد، كالأعلام، أي: أصحابها كالجبال الرواسي، لا يهزهم شيء من الواردات ولا غيرها، إن يشأ يُسكن رياح الواردات عن أسرارهم، فيبقين رواكد على ظهر بحر الأحدية، مستغرقين في شهود الذات العلية، أو يُوبقهن بما كسبوا من سوء الأدب، فيغرقن في الزندقة أو الحلول والاتحاد، ويعفُ عن كثير، ويعلم الذين يطعنون في آياتنا الدالة علينا ما لهم من مهرب.
{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} يقول الحق جلّ جلاله: {فما أُوتيتم من شيءٍ} مما ترجون وتتنافسون فيه {فمتاعُ الحياةِ الدنيا} أي: فهو متاعها، تتمتعون به مدة حياتكم، ثم يفنى، {وما عند الله} من ثواب الآخرة {خيرٌ} ذاتاً؛ لخلوص نفعه، {وأبقى} زماناً؛ لدوام بقائه. {للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون}، و«ما» الأولى ضُمّنت معنى الشرط، فدخلت في جوابها الفاء، بخلاف الثانية. وعن عليّ رضي الله عنه: أن أبا بكر رضي الله عنه تصدَّق بماله كله، فلامه الناس، فنزلت الآية. ثم قال تعالى: {والذين يجتنبون كبائر الإثم} أي: الكبائر من هذا الجنس. وقرأ الأخوان: «كبير الإثم». قال ابن عباس: هو الشرك، {و} يجتنبون {الفواحِشَ} وهي ما عظم قُبحها، كالزنى ونحوه، {وإِذا ما غَضِبوا} من أمر دنياهم {هم يغفرون} أي: هم الإخِصَّاء بالغفران في حال الغضب، فيحملون، ويتجاوزون. وفي الحديث: «مَن كظم غيظه في الدنيا ردّ اللهُ عنه غضبَه يوم القيامة». {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة}؛ أتقنوا الصلوات الخمس، {وأمرُهُم شُورى بينهم} أي: ذو شورى، يعني: لا ينفردون برأيهم حتى يجتمعون عليه. وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمورهم. والشورى: مصدر، كالفتيا، بمعنى التشاور. {ومما رزقناهم يُنفقون}؛ يتصدقون. {والذين إذا أصابهم البغيُ}؛ الظلم {هم ينتصرون}؛ ينتقمون ممن ظلمهم، أي: يقتصرون في الانتصار على ما حُدّ لهم، ولا يعتدون، وكانوا يكرهو أن يذلُّوا أنفسَهم فيجترىء عليهم الفسّاق، فإذا قدروا عفوا، وإنما حُمدوا على الانتصار؛ لأن من انتصر، وأخذ حقه، ولم يجاوز في ذلك حدّ الله، فلم يسرف في القتل، إن كان وليّ دم، فهو مطيع لله. وقال ابن العربي: قوله: {والذين إذا أصابهم البغي...} الآية ذكر الانتصار في معرض المدح، ثم ذكر العفو في معرض المدح، فاحتمل أن يكونَ أحدهُما رافعاً للآخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى حالين، أحَدُهُما: أن يكون الباغي مُعلناً بالفجور وقحاً في الجمهور، ومؤذياً للصغير والكبير، فيكون الانتقامُ منه أفضل، وفي مثله قال إبراهيم النخعي: يُكره للمؤمنين أن يُذِلُّوا أنفسهم، فيجترىء عليهم الفُسّاق. وإما أن تكون الفَلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة، ويسأل المغفرة، فالعفو ها هنا أفضل، وفي مثله نزل: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 277]، {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ} [النور: 22] الآية. ه. ثم بيّن حدّ الانتصار، فقال: {وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلها}؛ فالأولى سيئة حقيقة، والثانية مجازاً للمشاكلة، وفي تسميتها سيئة نكتة، وهي الإشارة إلى أن العفو أولى، والأخذ بالقصاص سيئة بالنسبة إلى العفو، ولذلك عقبه بقوله: {فمَن عَفَا وأصلحَ} بينه وبين خصمه بالتجاوز والإغضاء {فأجره على الله}، وهي عِدَةٌ مبهمة لا يقادر قدرها، {إِنه لا يحب الظالمين} الذين يبدؤون بالظلم، أو: يتجاوزون حدّ الانتصار. وفي الحديث: «ينادي منادٍ يوم القيامة: مَن كان له أجر على الله فليقم، فلا يقوم إلا مَن عفا». {ولمَن انتصرَ بعد ظلمه} أي: أخذ حقه بعدما ظُلم على إضافة المصدر إلى المفعول {فأولئك} جمع الإشارة مراعاة لمعنى «مَن» {ما عليهم من سبيلٍ} للمعاقب ولا للمعاتب {إِنما السبيل على الذين يظلمون الناسَ}؛ يبتدئونهم بالظلم، {ويبغون في الأرض}؛ يتكبّرون فيها، ويعْلون، ويفسدون {بغير الحق أولئك لهم عذابٌ أليمٌ} بسبب بغيهم وظلمهم. وفسّر السبيل بالتبعة والحجة. {ولَمَن صَبَرَ} على الظلم والأذى، {وغَفَرَ} ولم ينتصر، أو: وَلَمَن صبر على البلاء من غير شكوى، وغفر بالتجاوز عن الخصم، ولا يُبقي لنفسه عليه دعوى، بل يُبري خصمه من جهته من كل دعوى في الدنيا، والعقبى، {إِنَّ ذلك لَمِن عزم الأمور} أي: إن ذلك الصبر والغفران منه لَمِنْ عزم الأمور، أي: من الأمور التي ندب إليها، وعزم على فعلها، أو: مما ينبغي للعاقل أن يوجبه على نفسه، ولا يترخّص في تركه. وحذف الراجع أي: منه كما حذف في قولهم: السمن مَنْوَانِ بدرهم. وقال أبو سعيد القرشي: الصبر على المكاره من علامات الانتباه، فمَن صبر على مكروه أصابه، ولم يجزع، أورثه الله تعالى حال الرضا، وهو أصل الأحوال؛ ومَن جزع من المصيبات، وشَكى، وكَلَه إلى نفسه، ثم لم تنفعه شكواه. ه. وانظر تحصيل الآية في الإشارة، إن شاء الله. قال ابن جزي: ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق، ثم صفات عُمَر، ثم صفات عثمان، ثم صفات عليّ بن أبي طالب، فأما صفات أبي بكر، فقوله: {الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} وإنما جعلنا هذه صفات أبي بكر، وإن كان جميعهم متصفاً بها، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا مدينة الإيمان، وأبو بكر بابها» وقال أبو بكر: «لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً». والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان. وأما صفات عمر: فقوله: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش}؛ لأن ذلك هو التقوى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا مدينة التقوى وعُمَر بابها»، وقوله: {وإذا ما غَضبوا هم يغفرون}، وقوله: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجونَ أيام الله} نزلت في عمر. وأما صفات عثمان؛ فقوله: {والذين استجابوا لربهم}؛ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل، وفيه نزلت: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً...} [الزمر: 9] الآية. ورُوي أنه كان يُحيي الليلَ بركعة، يقرأ فيها القرآن كله. وقوله: {وأمرهم شورى بينهم}؛ لأن عثمان وَلِيَ الخلافة بالشورى، وقوله: {ومما رزقناهم يُنفقون}؛ لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة. وأما صفات عليّ؛ فقوله: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}؛ لأنه لمَّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها، انتصاراً للحق، وانظر كيف سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعليّ الفئةَ الباغية، حسبما ورد في الحديث الصحيح، أنه قال لعمّار: «ويْحَ عمّارٍ، تقتلُه الفئةُ الباغيةُ» وذلك هو البغي الذي أصابه، وقوله: {فمَن عفا وأصلح فأجره على الله} إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ، حين بايع معاوية، وأسقط حق نفسه، ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن: «إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، وسَيُصْلِحُ اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» وقوله: {ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت أخيه، وطلبه للخلافة، وانتصاره من بني أمية. وقوله: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس} إشارة إلى بني أمية، فإنهم استطالوا على الناس، كما في الحديث: «إنهم جعلوا عباد الله خُوَلاً، ومال الله دُولاً»، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب على منابرهم، وقوله: {ولمَن صبر وغفر} إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل، طول مدة بني أمية. ه. الإشارة: قوله تعالى: {فما أُوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدنيا} أي: وينقصُ من درجاتكم في الآخرة بقدر ما تمتعتم به، كما في الخبر، ولذلك زهَّد فيه بقوله: {وما عند الله خيرٌ وأبقى...} الآية، أي: وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود. {والذين يجتنبون كبائر الإثم} هي أمراض القلوب، كالحسد والكبر والرياء وغيرها، {والفواحش} هي معاصي الجوارح كالزنا وغيره. وقوله تعالى: {وإذا ما غَضِبُوا هم يغفرون} لم يقل الحق تعالى: والذين لم يغضبوا؛ لأن الغضب وصف بشري، لا ينفك عنه مخلوق، فالمطلوب المجاهدة في دفعه، وردّ ما ينشأ عنه، لا زواله من أصله، فعدم وجوده في البشر أصلاً نقص، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه: «مَن اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار» فالشرف هو كظمه بعد ظهوره، لا زواله بالكلية. وقوله تعالى: {والذين استجابوا لربهم} قال القشيري: المستجيبُ لربه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه، ولا يبقى لهم منه بقية، {وأمرهم شورى بينهم} أي: لا يستبدُّ أحدهم برأي، ويتَّهِمُ رأيَه وأمرَه، ثم إذا أراد القطعَ توكل على الله. ه. وحاصل ما اشتملت عليه الآية في رد الغضب: أربع مقامات: الأول: قوم من شأنهم الغفران مطلقاً، قدروا أو عجزوا، لا يتحركون في الانتصار قط، وهو قوله تعالى: {وإِذا ما غَضِبُوا هم يغفرون}. والثاني: قوم قادرون على إنفاذ الغضب، فتحركوا في الانتصار، ثم عفوا بعد الاقتدار، وهذا قوله: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}، ثم قال: {فمَن عفا وأصلح فأجره على الله}. والثالث: قوم قدروا وانتصروا، وأخذوا حقهم، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم، وهو قوله: {ولمَن انتصر بعد ظلمه...} الآية. والرابع: قوم ظُلِموا، فعفوا، وزادوا الإحسان إلى مَن أساء إليهم، والدعاء له بالمغفرة، حتى يصير مرحوماً بهم، وهي رتبة الصدّيقية، أن ينتفع بهم أعداؤهم، وهو قوله تعالى: {ولمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور. وعند الصوفية: ثلاث طبقات: العامة ينتصرون، والخاصة لا ينتصرون، لكن يرفعون أمرهم إلى الله في أخذ حقهم من ظالمهم، وخاصة الخاصة يُحسنون لمَن أساء إليهم، كما تقدّم. وقال القشيري: {والذين إذا أصابهم البغي} وهو الظلم، ينتصرون؛ لعِلمهم أن الظلمَ أصابهم من قِبَلِ أنفسهم، فينتصرون من الظالم، وهو النفس، ويكبحون عنانها من الركض في ميدان المخالفة. ثم قال: قوله: {ولمَن انتصر...} الآية، عَلِمَ اللهُ أنَّ من عباده مَن لا يجد الحرية من أحكام النَّفْس، ولا يستمكن من محاسن الخُلق، فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط، وإن كان الأوْلى بهم الصفح والعفو. ه.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)} يقول الحق جلّ جلاله: {ومَن يُضْلِل اللهُ فَما له من وليٍّ من بعده} أي: فما له من أحد يلي هدايته من بعد إضلال الله إياه، ويمنعه من عذابه. {وترى الظالمين} يوم القيامة، وهم الذين أضلّهم الله، {لَمَّا رَأَوا العذاب}؛ حين يرون العذاب، وأتى بصيغة الماضي للدلالة على تحقيق الوقوع، {يقولون هل إِلى مَرَدٍّ}؛ رجعة إلى الدنيا {من سبيل} حتى نُؤمن ونعمل صالحاً. {وتراهم يُعرضون عليها}؛ على النار، يدلّ عليها ذكر العذاب. والخطاب لكل مَن يتأتى منه الرؤية {خاشعين من الذل}؛ متذللين متضائلين مما دهاهم، فالخشوع: خفض البصر وإظهار الذل، {ينظرون} إلى النار {من طَرْفٍ خَفِيٍّ} ضعيف بمسارقة، كما ترى المصْبُور ينظر إلى السيف عند إرادة قتله. {وقال الذين آمنوا إِن الخاسرين الذين خسروا أنفسَهم وأهليهم} بالتعرُّض للعذاب الخالد {يومَ القيامة}، و«يوم»: متعلق بخسروا. وقول المؤمنين واقع في الدنيا. ويقال، أي: يقولونه يوم القيامة، إذا رأوهم على تلك الصفة: {ألا إِن الظالمين في عذابٍ مقيم}؛ دائم، {وما كان لهم من أولياء ينصرونهم} برفع العذاب عنهم {من دون الله} حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا، {ومَن يُضلل اللهُ فما له من سبيلٍ} إلى النجاة. {استجيبوا لربكم} إلى ما دعاكم إليه على لسان نبيه، {من قبل أن يأتيَ يومٌ} أي: يوم القيامة {لا مردَّ له من اللهِ} أي: لا يرده الله بعد ما حكم بمجيئه، ف «من» متعلق ب «لا مرد»، أو: ب «يأتي» أي: من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده، {ما لكم من ملجأ يومئذٍ} أي: مفر تلتجئون إليه، {وما لكم من نكيرٍ} أي: وليس لكم إنكار لما اقترفتموه؛ لأنه مدوَّن في صحائف أعمالكم، وتشهد عليكم جوارحكم. {فإِنْ أعرضوا} عن الإيمان {فما أرسلناك عليهم حفيظاً}؛ رقيباً، تحفظ أعمالهم، وتحاسبهم، {إِنْ عليك إِلا البلاغُ}؛ ما عليك إلا تبليغ الرسالة، وقد بلغت، وليس المانع لهم من الإيمان عدم التبليغ، وإنما المانع: الطغيان وبطر النعمة، كما قال تعالى: {وإِنَّا إِذا أَذقنا الإِنسانَ منا رحمةً} أي: نعمة من الصحة، والغنى، والأمن، {فرح بها} وقابلها بالبطر، وتوصّل بها إلى المخالفة والعصيان. وأريد بالإنسان الجنس، لقوله تعالى: {وإِن تُصبهم سيئة}، بلاء، من مرض، وفقر، وخوف، {بما قدمتْ أيديهمْ فإِنَّ الإِنسانَ كفورٌ}؛ بليغ الكفر، ينسى النعمة رأساً، ويذكر البلية، ويستعظمها، بل يزعم أنها أصابته من غير استحقاق. وأفرد الضمير في (فرح) مراعاة للفظ، وجمعه في «تُصبهم» مراعاة للمعنى. وإسناد هذه الخصلة إلى الجنس مع كونها من خواص الجنس، لغلبتها فيهم. وتصدير الشرطية الأُولى بإذا، مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة؛ للتنبيه على أن إيصال الرحمة محقق الوجود، كثير الوقوع، وأنه مراد بالذات، كما أن تصدير الثانية بأن، وإسناد الإصابة إلى السيئة، وتعليلها بأعمالهم؛ للإيذان بندرة وقوعها، وأنها غير مرادة بالذات، «إن رحمتي سبقت غضبي». ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم. قاله أبو السعود. الإشارة: من تنكبتْه العناية السابقة، وأدركته الغواية اللاحقة، لم ينفع فيه وعظ ولا تذكير، وليس له من عذاب الله وليّ ولا نصير، فإذا تحققت الحقائق، وطلب الرجوع، لم يجد له سبيلاً، وبَقِيَ في الهوان خاشعاً ذليلاً، فيُعيرهم مَن سبقتْ لهم العناية، من أهل الجد والتشمير، ويقولون: هؤلاء الذين خسروا أنفسهم، حيث لم يُتعبوها في مرضاة الله، وأهليهم، حيث لم يذكِّروهم الله. قال القشيري: قوله تعالى: {استجيبوا لربكم} بالوفاء بعهده، والقيام بحقِّه، والرجوع من مخالفته إلى موافقته، والاستسلام في كل وقت لحُكمِه والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوحٌ، وعن قريبٍ سيُغْلَقُ البابُ على القلب بغتة، ويُؤخذ فلتةً. ه. ويقال لكل واعظ وداع: {فإِن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً...} الآية.
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} يقول الحق جلّ جلاله: {لله مُلك السماوات والأرض} أي: يملك التصرُّف فيهما، وفي كل ما فيهما، كيف يشاء، ومن جملته: أن يقسم النعمة والبلية، حسبما يريده. {يخلق ما يشاء} مما يعلمه الخلقُ ومما لا يعلمونه، {يهَبْ لمَن يشاء إِناثاً} من الأولاد {ويهبُ لمن يشاء الذكورَ} منهم، من غير أن يكون لأحد في ذلك مدخل، {أو يُزوجهم} أي: يقرن بين الصنفين، ويهبهما جميعاً {ذكراناً وإِناثاً}، بأن تلد غلاماً ثم جارية، أو تلدهما معاً. {ويجعلُ مَن يشاءُ عقيماً} لا نسل له. والعقيم: الذي لا يُولد له، رجل أو امرأة. وقدّم الإناث أولاً على الذكور؛ لأن سياقَ الكلام أنه فاعل ما يشاء، لا ما يشاؤه الإنسان، فكان ذِكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهمّ، أو: لأن الكلام في البلاء، والعرب تعدهن عظيم البلايا، أو: تطييب القلوب آبائهم، ولمَّا أخَّر الذكور وهم أحقاء بالتقديم تدارك ذلك بتعريفهم؛ لأن التعريف تنويه وتشريف، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين ما يستحقه من التقديم والتأخير، فقال: {ذكراناً وإناثاً}. وقيل المراد: أحوال الأنبياء عليهم السلام حيث وهب لشعيب ولوط إناثاً، ولإبراهيم ذكوراً، وللنبي صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً، وجعل يحيى وعيسى عقيمين. {إِنه عليم قدير} مبالغ في العلم والقدرة، فيفعل ما فيه حكمة ومصلحة. الإشارة: يهب لمَن يشاء إناثاً، علوماً وحسنات، ويهب لمَن يشاء الذكور، أذواقاً وواردات، ويجعل مَن يشاء عقيماً، لا علم ولا ذوق، وانظر لطائف المنن. أو تقول: يهب لمَن يشاء إناثاً؛ مَن ورّث علم الرسوم الظاهر، وأقيمت بعده، ويهب لمَن يشاء الذكور؛ مَن ورّث علم الأذواق والوجدان، وعمّر رجالاً، أو يزوجهم؛ مَن ورثهما، ويجعل مَن يشاءُ عقيماً لم يترك وارثاً، لا من الظاهر، ولا من الباطن، وقد يكون كاملاً وهو عقيم، وقد يكون غير كامل وله أولاد كثيرة، لكن الغالب على مَن له أولاد أن يتسع بهم، بخلاف العقيم. والله تعالى أعلم.
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} يقول الحق جلّ جلاله: {وما كان لبشرٍ} أي: ما صحّ لأحد من البشر {أن يُكلمه اللهُ} بوجه من الوجوه {إِلا وَحْياً} إلهاماً، كقوله عليه الصلاة السلام: «ألقي في رُوعي» أو: رؤيا في المنام لقوله صلى الله عليه وسلم: «رؤيا الأنبياء وحي» كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح الولد، وكما أوحي إلى أم موسى، رُوي عن مجاهد: «أَوحى اللهُ الزبورَ إلى داود عليه السلام في صدره». {أو من وراءِ حجابٍ} بأن يسمع كلاماً من الله، من غير رؤية السامع مَن يكلمه، كما سمع موسى عليه السلام من الشجرة، ومن الفضاء في جبل الطور، وليس المراد به حجاب الله تعالى على عبده حساً؛ إذ لا حجاب بينه وبين خلقه حساً، وإنما المراد: المنع من رؤية الذات بلا واسطة. {أو يُرسلَ رسولاً} أو: بأن يرسل مَلَكاً {فيُوحيَ} الملَكُ {بإِذنه}؛ بإذن الله تعالى وتيسيره {ما يشاءُ} من الوحي. وهذا هو الذي يجري بينه تعالى وبين أنبيائه في عامة الأوقات. روي: أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله، وتنظر إليه إن كنت نبياً، كما كلمة موسى، ونظر إليه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لم ينظر موسى إلى الله تعالى» فنزلت. والذي عليه جمهور المحققين أن نبينا عليه الصلاة والسلام رأى ربه ليلة المعراج، وكلّمه مشافهة، وعليه حمل البيضاوي قوله تعالى: {إِلا وحياً}؛ لأن الوحي هو: الكلام الخفي، المدرك بسرعة، أعم من أن يكون مشافهة أو غيرها. قال الطيبي: وإذا حمل الوحي على ما قاله البيضاوي، وأنه المشافهة، المعنى بقوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى} [النجم: 10] اتجه ترتيب الآية، وأنه ذكر أولاً الكلام بلا واسطة، بل مشافهة، وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر ما كان بغير واسطة، ولكن لا بمشافهة، بل من وراء الغيب، ثم ذكر الكلام بواسطة الإرسال. ه. بالمعنى. {إِنه عَلِيٌّ}؛ متعال عن صفات المخلوقين، لا يتأتى جريان المفاوضة بينه تعالى وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة، ولا تكون المكافحة إلا بالغيبة عن حس البشرية، {حيكمٌ} يُجري أفعاله على سنن الحكمة، فيكلم تارة بواسطة، وأخرى بدونها، مكافحة، أو غيرها. {وكذلك} أي: ومثل ذلك الإيحاء البديع كما وصفنا {أوحينا إِليك روحاً من أمرنا} وهو القرآن، الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان، فحييت الحياة الأبدية. {ما كنت تدري} قبل الوحي {ما الكتابُ} أيّ شيء هو، {ولا الإِيمانُ} بما في تضاعيف الكتاب من الأمور التي لا تهتدي إليها العقول، لا الإيمان بما يستقل به العقل والنظر، فإنَّ دِرايتَه صلى الله عليه وسلم مما لا ريب فيه قطعاً. قال القشيري: ما كنت تدري قبل هذا ما القرآن ولا الإيمان بتفصيل هذه الشرائع. وقال الشيخ البكري: أي الإيمان على الوجه الأخص، المرتب على تنزلات الآيات، وتلاوة البينات، واستكشاف وجه الحق بأنوار العلم المنزل على قلبه من حضرة ربه. ه. وقال ابن المنير: الإيمان برسالة نفسه، وهو المنفي عنه قبل الوحي؛ لأن حقيقة الإيمان: التصديق بالله وبرسوله. ه. {ولكن جعلناه} أي: الروح الذي أوحيناه إليك {نوراً نهدي به مَن نشاء} هدايته {من عبادنا}، وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به. {وإِنك لتهدي} بذلك النور مَن نشاء هدايته، أو: وإنك لتدعو {إِلى صراط مستقيم} هو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام، {صراطِ الله}؛ بدل من الأول، وإضافته إلى الاسم الجليل، ثم وصفه بقوله تعالى: {الذي له ما في السماوات وما في الأرض} لتفخيم شأنه، وتقرير استقامته، وتأكيد وجوب سلوكه؛ فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى، خلقاً، وملكاً، وتصرفاً، مما يُوجب ذلك أتم الإيجاب. {ألا إِلى الله تصير الأمورُ} أي: الأمور قاطبة راجعة إليه، لا إلى غيره، فيتصرّف فيها على وِفق حكمته ومشيئته. الإشارة: قد تحصل للأولياء المكالمة مع الحق تعالى بواسطة تجلياته، فيسمعون خطابه تعالى من البشر والحجر، أو بلا واسطة، بحيث يسمعون الكلام من الفضاء، وإليه أشار الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه بقوله: «وهب لنا مشاهدةً تصحبها مكالمة»، ولا تكون هذه الحالة إلا للأكابر من أهل الفناء والبقاء. وأما مكالمة الحق من النور الأقدس، بلا واسطة، فهو خاص نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه: والذي عندي أن التكلم على المكافحة والمشابهة إنما يكون بالانخلاع عن البشرية، ومحوها، والبقاء بصفات الربوبية، وذلك إشارة إلى أنه عليه السلام إنما شُوفَه وكلّم بعد العروج عن أرض الطبيعة إلى سماء الحقيقة. وكان بالأرض يُكلم بالواسطة، وموسى كُلّم بغير واسطة، ولكن بغير مشافهة، ولذلك كان كلامه بالأرض، ولم يعط الرؤية؛ لأنها لا تكون في الأرض، أي في أرض البشرية، بل لا بد من الغيبة عنها. وذهب الورتجبي إلى أن الحصْر فيما ذكر في الآية إنما هو لمَن كان في حجاب البشرية، فأما مَن خرج عنها إلى الغيب، وألبس نور القرب وكحّل عينه بنوره تعالى، ومدّ سمعه بقوة الربوبية، فإنه يُخاطب كفاحاً وعياناً. ونقل مثل ذلك عن الواسطي، فراجع بسطه فيه. والفرق بينه وبين ما ذكرنا: أن خطاب المكافحة عنده خارجة من الثلاثة المذكورة في الآية، وعندنا داخلة في قوله: {إِلا وحياً}؛ لأنه أعم من المشافهة، والله أعلم. وقوله تعالى: {وإِنك لَتَهدي إِلى صراط مستقيم} أي: طريق الوصول والترقي أبداً، فيؤخذ منه: أن وساطته صلى الله عليه وسلم لا تنقطع عن المريد أبداً؛ لأن الترقي يكون باستعمال أدب العبودية، وهي مأخوذة عنه صلى الله عليه وسلم، وكما أن الترقي لا ينقطع؛ فالأدب الذي هو سلوك طريقته صلى الله عليه وسلم لا ينقطع. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)} يقول الحق جلّ جلاله: {حم}؛ يا محمد، {و} حق {الكتابِ المبين} أي: المبين لِما أنزل عليهم، لكونه بلغتهم، وعلى أساليبهم، أو: الموضّح لطريق الهدى من الضلالة، أو: المبيّن لكل ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة. وجواب القسم: {إِنا جعلناه قرآناً عربياً} بلغتكم {لعلكم تعقلون} أي: جعلنا ذلك الكتاب قرآناً عربياً لكي تفهموه، وتُحيطوا بما فيه من النظم الرائق، والمعنى الفائق، وتقفوا على ما تضمّنه من الشواهد القاطعة بخروجه عن طوق البشر، وتعرفوا حق النعمة في ذلك، فتنقطع أعذاركم بالكلية. {وإِنه في أُمّ الكتاب لدْينَا} أي: وإن القرآن العظيم مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، دليله قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظِ} [البروج: 21، 22]. وسُمِّي أمّ الكتاب؛ لأنه أصل الكتب السماوية، منه تُنقل وتُنسخ. وقوله تعالى: {لَعَلِيٌّ} خبر {إن} أي: إنه رفيع القدر بين الكتب، شريف المنزلة؛ لكونه معجزاً من بينها. أو: في أعلى طبقات البلاغة. {حيكمٌ}؛ ذو حكمة بالغة. أو: محكم، لا ينسخه كتاب. وبعدما بيَّن علو شأنه، وبيَّن أنه أنزله بلغتهم؛ ليعلموه، ويؤمنوا به، ويعملوا بما فيه، عقَّبَ ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه، فقال: {أفَنَضرِِبُ عنكم الذِكرَ} أي: ننحيه ونُبعده. والضرب: مجاز، من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض. وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجيه الذكر إليهم، وملازمته لهم، كأنه يتهافت عليهم ثم يضربه عنهم. والفاء: للعطف على محذوف؛ أي: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر {صَفْحاً} أي: إعراضاً، مصدر، من: صفَح عنه: إذا أعرض، منصوب على أنه مفعول له، على معنى: أفنعزل عنكم إنزال القرآن، وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم. ويجوز أن يكون مصدراً مؤكداً لما دلّ عليه «نضرب»؛ لأنه في معنى الصفح، كأنه قيل: أفنفصح صفحاً {أن كنتم قوماً مسرفين}، أي: لأن كنتم منهمكين في الإسراف، مصرّين عليه؛ لأن حالكم اقتضى تخيلتكم وشأنكم، حتى تموتوا على الكفر والضلالة، فتبقوا في العذاب الخالد، لكن بسعة رحمتنا لا نفعل ذلك، بل نهديكم إلى الحق، بإرسال الرسول الأمين، وإنزال الكتاب المبين. ومَن قرأ بالكسر فشرط حُذف جوابه؛ لدلالة ما قبله عليه، وهو من الشرط الذي يصدرُ عن الجازم بصحة الأمر، كما يقول الأجير: إن كنتُ عملتُ لك فوفّني حقي، وهو عالم بذلك. وعبّر ب «أن»؛ إخراجاً للمحقق مخرج المشكوك؛ لاستهجالهم، كأن الإسراف من حقه ألا يقع. الإشارة: {حم} أي: حببناك، ومجدناك، وملكناك، وحق الكتاب المبين. ثم استأنف فقال: {إنا جعلناه} أي: ما شرفناك به أنت وقومك {قرآناً عربياً} يفهمه مَن يسمعه {لعلكم تعقلون} عن الله، فتشكروا نعمه. {وإنه في أُمّ الكتاب} أي: وإن الذي شرفناكم به في أُمّ الكتاب. قال الرتجبي: أي: إنه صفتي، كان في ذاته منزهاً عن النقائص والافتراق- أي: منزهاً عن الحروف والأصوات، التي من شأنها التغيُّر، وعن التقديم والتأخير، وهو افتراق كلماته- إذ هما من صفات الحدث. وأُم الكتاب عبارة عن ذاته القديم، لأنها أصل جميع الصفات، {لَدَيْنَا} معناه: ما ذكرنا أنه في أُمّ الكتاب عندنا {لعلِيّ} علا عن أن يدركه أحدٌ بالحقيقة، ممتنع من انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، {حكيم} محكِم مبين. وقال جعفر: عَلِيّ عن درك العباد وتوهمهم، حكيم فيما دبّر وأنشأ وقدّر. ه. فانظره، فإنَّ هذه من صفات الحق، والكلام في أوصاف القرآن. وقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عنكم الذِكْرَ صفحاً} الآية، قال القشيري: وفي هذه إشارة لطيفة، وهو: ألا يُقطع الكلامُ عمّن تمادى في عصيانه، وأسرف في أكثر شأنه، فأحرى أن مَنْ لم يُقَصّرْ في إيمانه، أو تَلَطَّخَ بعصيانه، ولم يَدْخُل خَلَلٌ في عرفانه، فإنه لا يَمْنَعَ عنه رؤية لطائف غفرانه. ه. يعني: أن الحق جلّ جلاله لم يقطع كلامه عمن تمادى في ضلاله، فكيف يقطع إحسانه عمّن تمسك بإيمانه، ولو أكثر من عصيانه. وكذلك أهل النسبة التصوفية، إذا اعوجّ أخوهم، لا يقطعون عنه كلامهم وإحسانهم، بل يلاطفونه، حتى يرجع، وهذا مذهب الجمهور.
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)} يقول الحق جلّ جلاله: {وكم أرسلنا} أي: كثيراً أرسلنا قبلك {من نبيٍّ في الأولين}؛ في الأمم الماضية، فكذَّبوهم واستهزؤوا بهم. {وما يأتيهم من نبيٍّ إلا كانوا به يستهزئون}، فاصبر كما صبروا. ويحتمل أن يكون تقريراً لِمَا قبله؛ لبيان أن إسراف الأمم السابقة لم يمنعه تعالى من إرسال الرسل إليهم، وكونها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم أظهر. {فأهلكنا أشدَّ منهم بَطْشاً} أي: فأهلكنا مِن الأمم السالفة مَن كان أكثر منهم طغياناً وإسرافاً، {ومضى مَثَلُ الأولين} أي: سلف في القرآن غير مرة ذكر قصة الأولين، وهي عِدةٌ له صلى الله عليه وسلم، ووعيد لقومه، بطريق الأولوية. فمثل ما جرى على الأولين يجري على هؤلاء؛ لاشتراكهم في الوصف. وظاهر الآية: أن النبي والرسول واحد، والمشهور: أن النبي أعم، فكل رسول نبي، ولا عكس، فالنبي مقصور في الحُكم على نفسه، والرسول نبيّ مكلّف بالتبليغ. الإشارة: ما سُليت به الأنبياء والسل يُسلَى به الأولياء؛ لأنهم خلفاؤهم، فكل مَن أُوذي واستُهزئ به يتذكر ما جرى على مَن كان أفضل منه من الأنبياء وأكابر الأولياء، فيخف عليه الأذى. وبالله التوفيق.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} يقول الحق جلّ جلاله: {ولئن سألتهم} أي: المشركين {مَنْ خلق السماواتِ والأرضَ ليقولُنَّ خلقهن العزيزُ العليمُ} أي: ينسبون خلقها إلى مَن هذا وصفه في نفس الأمر؛ لا أنهم يُعبِّرون عنه بهذا العنوان. واختار هذن الوصفين للإيذان بانفراده بالإبداع والاختراع والتدبير؛ لأن العزة تُؤذن بالغلبة والاقتدار، والعلم يؤذن بالتدبُّر والاختيار، وليُرتب عليه ما ينسابه من الأوصاف، وهو قوله: {الذي جعل لكم الأرض مهاداً} أي: موضع قرار كالمهد المعلق في الهواء، {وجعل لكم فيها سُبُلاً} تسلكونها في أسفاركم {لعلكم تهتدون} أي: لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم، أو: بالتدبُّر فيها إلى توحيد ربكم، الذي هو المقصد الأصلي. {والذي نَزَّلَ من السماء ماء بِقَدَرِ}؛ بمقدار يسلم معه العباد، وتحتاج إليه البلاد، على ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكَم والمصالح، {فأنشرنا به} أي: أحيينا بذلك الماء {بلدةً ميْتاً} خالياً عنه الماء والنبات. وقُرئ: «ميِّتاً» بالتشديد. وتذكيره؛ لأن البلدة بمعنى البلد. والالتفات إلى نون العظمة؛ لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظيم خطره، {كذلك تُخرجون} أي: مثل ذلك الإحياء، الذي هو في الحقيقة: إخراج النبات من الأرض، تُخرجون من قبوركم أحياء. وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشاء، الذي هو إحياء الموتى، وعن إحيائهم بالإخراج؛ تفخيم لإن لشأن الإنبات، وتهوين لأمر البعث، لتقويم سَنَنِ الاستدلال، وتوضيح منهاج القياس. وهذه الجُمل، من قوله {الذي جعل...} استئناف منه تعالى، وليست من مقول الكفار؛ لأنهم يُنكرون الإخراج من القبول، بل الآية حجة عليهم في إنكار البعث، وكذا قوله: {والذي خلق الأزواجَ كلها}، أي: أصناف المخلوقات بحذافيرها، على اختلاف أنواعها وألوانها. وقيل: الأزواج: ما كان مزدوجاً، كالذكر والأنثى، والفوق والتحت، والأبيض والأسود، والحلو والحامض، وقيل: كل ما ظهر من الغيب فهو مزدوج. والفرد هو الله. {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} أي: ما تركبونه، يقال: ركبوا في الفلك، وركبوا الأنعام، فَغُلِّبَ المتعدّي بغير واسطة؛ لقوته على المتعدي بواسطة، فقيل: تركبونه. {لتستووا على ظهوره}: ولتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفُلك والأنعام، {ثم تذكروا نعمةَ ربكم إِذا استويتم عليه}؛ تذكروها بقلوبكم، معترفين بها بألسنتكم، مستعظمين لها، ثم تحمدوا عليها بألسنتكم، {وتقولوا سبحانَ الذي سَخَّرَ لنا هذا} أي: ذلَّل لنا هذا المركوب، متعجبين من ذلك {وما كُنا له مُقْرِنينَ}؛ مطيقين. يقال: أقرن الشي: إذا أطاقه، وأصله: وجده قرينه؛ لأن الصعب لا يكون قريناً للضعيف إلا إذا ذلّله الله وسهّله، {وإِنَّا إِلى ربنا لمنقلبون} أي: راجعون. وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يذكر عند ركوبه مركب الدنيا، آخر مركبه منها، وهو: الجنازة؛ فيبني أموره في مسيره على تلك الملاحظة، حتى لا يخطر بباله شيء من زينة الدنيا، وملاهيها وأشغالها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا وضع رجله في الركاب، قال:» بسم الله «فإذا استوى على الدابة قال: {الحمد لله الذي خسر لنا هذا...} إلى: {منقلبون}، ثم كبّر» ثلاثاً «وهلّل ثلاثاً، ثم قال:» اللهم اغفر لي.. «، وحُكي أن قوماً ركبوا، وقالوا: {سبحان الذي سخّر لنا هذا...} الآية، وفيهم رجل على ناقة لا تتحرك هُزالاً، فقال: إني مقرن لهذه- أي مطيق- فسقط منها لوثبتها، واندقّت عنقه. وينبغي ألا يكون ركوبُ العاقل للشهرة والتلذُّذ، بل للاعتبار، فيحمد الله ويشكره على ما أولاه من نعمه، وسخَّر له من أنعامه. الإشارة: قد اتفقت الملل كلها على وجود الصانع، إلا مَن عِبْرة به من الفلاسفة، وإنما كفر مَن كفر بالإشراك، أو: بوصف الحق على غير ما هو عليه، أو: بجحد الرسول. وقد تواطأت الأدلة العقلية والسمعية على وجود الحق وظهوره، بظهور آثار قدرته، والصفة لا تُفارق الموصوف، فدلّ بوجود أثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه، على وجود أوصافه، وبثبوت أوصافه على وجود ذاته. فأهل السلوك يكشف لهم أولاً عن وجود آثاره، ثم عن أسمائه، ثم صفاته، ثم عن شهود ذاته. وأهل الجذب يكشف لهم أولاً عن ذاته، ثم عن أوصافه، ثم عن أسمائه، ثم عن آثاره، فربما التقيا في الطريق، هذا في ترقيه، وهذا في تدليه، كما في الحِكَم. وقوله تعالى: {الذي جعل لكم الأرض مهاداً...} الخ، قال القشيري: كما جَعلها قَراراً لأشباحهم، جَعَلَ الأشباحَ قراراً لأرواحهم؛ فهي سُكَّانُ النفوس، كما أن الخَلْق سُكَّانُ الأرضِ، فإذا انتهت مدةُ كَوْنِ النفوسِ، حَكَمَ اللّهُ بخرابها... كذلك إذا فارقت الأرواحُ الأشباحَ بالكُلِّية، قضى الله بخرابها. ثم قال في قوله: {فأنشرنا به بلدة ميتاً}؛ وكما يُحْيي الأرضَ بالمطَر يُحْيي القلوبَ بحُسن النَّظَر. والذي خلق من الأزواج أصنافَ الخَلْق، كذلك حبس عليكم الأحوالَ كلها، فمِنْ رغبةٍ في الخيرات، وخوفٍ يحملكم على تَرْكِ الزلاّت، ورجاءٍ يبعثكم على فعل الطاعات، طمعاً في المثوبات، وغير ذلك من فنون الصِّفات، وكما سَخَّرَ الأنعام، وأعظمَ المنَّة بذلك، سَخَّر للمؤمنين مركب التوفيق، بحْملهم عليه إلى بساط الطاعة، وسهَّل للمريدين مركبّ الإرادة، وحَمَلَهم عليه إلى عَرَصَات الجود، وفضاء الشهود، وسَهَّل للعارفين مركبَ الهِمّة، فأناخوا بالحضرة القدسية، وعند ذلك مَحَطُّ الكافة؛ ثم لا تخرق سرادقاتِ العزةِ هِمَّةُ مخلوقٍ، سواء كان ملَكاً مُقّرَّباً، أو نبيّاً مُرْسلاً، أو ولياً مُكَرَّماً. فعند سطواتِ العِزِّ يتلاشى كلُّ مخلوقٍ، ويقف وراءها كل مُحْدَثٍ مسبوق. ه. ببعض المعنى. وسرادقات العز: حجاب الكبرياء، فلا تحصل الإحاطة بكُنه الربوبية لأحدٍ من الخلق. ولهذا يبقى الترقي أبداً للعارفين، في هذه الدار، وفي تلك الدار، ولا يحصل على غاية أسرار الربوبية أحد، ولو بقي يترقى أبداً سرمداً. والله تعالى أعلم.
{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)} يقول الحقّ جلّ جلاله: {وجعلوا} أي: المشركين {له من عباده جُزْءاً} حيث قالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءاً له، وبعضاً منه، كما يكون الولد لوالده جزءاً. وهذا متصل بقوله {ولئن سألتهم...} الخ، أي: ولئن سألتهم عن خالق السماوات والأرض لَيَعترفن به، وقد جعلوا له سبحانه بألسنتهم، واعتقادهم مع ذلك الاعتراف، من عباده جُزءاً، وعبَّر بالجزء لمزيد استحالته في حق الواحد الأحد، من جميع الجهات. وقرأ أبو بكر وحماد بضمتين. {إنَّ الإِنسانَ لكفور مبين}؛ لَجَحود للنعمة، ظاهر الكفران، مبالغ فيه؛ لأن نسبة الولد إليه أشنع الكفر. والكفر أصل الكفران كله. ثم ردّ عليهم بقوله: {أمِ اتخذَ مما يخلُق بناتٍ وأصْفَاكم بالبنينَ}، الهمزة للإنكار، تجهيلاً وتعجيباً من شأنهم، حيث ادَعوا أنه اختار لنفسه أخس الأشياء، ولهم الأعلى، أي: بل اتخذ لنفسه أخس الصنفين، واختار لكم أفضلهما؟ على معنى: هَبُوا أنكم اجترأتم إضافة جنس الولد إليه سبحانه، مع استحالته وامتناعه، أمَا كان لكم شيء من العقل، ونبذة من الحياء، حتى اجترأتم على التفوُّه بهذه العظيمة، الخارقة للمعقول، من ادعاء أنه تعالى آثركم على نفسه بخير الصنفين وأعلاهما، وترك له شرهما وأدناهما؟ وتنكير «بنات»، وتعريف «البنين» لما اعتبر فيهما من الحقارة والفخامة. وجملة: {وأصفاكم}: إما عطف على {اتخذ}، داخل في حكم التعجيب والإنكار، أو: حال من فاعله، بإضمار قد، أو: بدونه، على الخلاف. والالتفات إلى الخطاب لتأكيد الإجرام وتشديد التوبيخ. ثم قرّره بقوله: {وإِذا بُشِّر أحدُهُم بما ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً} أي: وإذا أُخبر أحدُهم بولاده ما جُعل مثلاً له سبحانه، وهي الأنثى، لأنهم جعلوا الملائكة بنات الله، وجزءاً منه؛ إذ الولد لا بد أن يُجانس الوالِد ويشابهه. {ظَلَّ وجهُهُ مُسوداً وهو كظيمٌ} يعني: أنهم نسبوا إليه هذا الجنس، ومِن حالهم: أن أحدهم إذا قيل له: قد وُلدت لك بنت، اغتمّ، واربدّ وجهه غيظاً وتأسُّفاً، وهو مملوءٌ من الكرب. والظلول: بمعنى الصيرورة، أي: صار أسود في الغاية من سوء ما بُشر به. {أوَ مَن ينشأ في الحِلْيةِ وهو في الخصام غير مُبينٍ} أي: أو يَجْعَلُ للرحمن من الولد مَن هذه الصفة المذمومة صفته، وهو أنه ينشأ في الحلية، أي: يتربّى في الزينة والتخنُّث، وإذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم، ومجاراة الرجال، كان غير مبين، ليس عنده بيان، ولا يأتي ببرهان؛ لضعف عقولهن. قال مقاتل: لا تتكلم المرأة إلا وتأتي بالحجة عليها- أي: في الغالب- وفيه: أنه جعل النشأة في الزينة من المعايب. فعلى الرجل أن يجتنبَ ذلك، له ولأولاده، ويتزين بلباس التقوى. و«مَنْ» منصوب المحل، أي: أوَ جعلوا مَن يربى في الحلية- يعني البنات- لله عزّ وجل. وقرأ الأخَوان وحفص؛ «يُنشَّأُ» أي: يُربّى. {وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إِناثاً} أي: اعتقدوا الملائكة وسموهم إناثاً. وهو بيان لتضمُّن كفرهم كفراً آخر، وتقريع لهم بذلك؛ وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله- عزّ وجل- أنقصهم رأياً. والعندية عندية منزلة ومكانة، لا مكان. ومَن قرأ «عبِاد» فجمع «عبد»، وهو ألزم في الاحتجاج مع أهل العناد لتضاد العبودية والولادة. {أَشَهِدوا خلقَهم} أي: أَحضروا خلقهم، فشاهدوا الله حين خلقهم إناثاً حتى يحكموا بأنوثتهم، فإنّ ذلك لا يُعلم إلا بالمشاهدة، وهو تجهيل لهم، وتهكُّم بهم. وقرأ نافع بهمزتين، أي: أاحضروا خلقهم. {ستُكتبُ شهادتُهم} التي شهدوا بها على الملائكة من أنهم إناث، في ديوان أعمالهم. {ويسألونَ} عنها يوم القيامة، وقرئ: شهاداتهم وهي قولهم: إن لله جزءاً من خلقه، وإن لله بنات، وأنها الملائكة. الإشارة: وجعلوا له من عباده جزءاً، أشركوا في المحبة معه غيره، والمطلوب: إفراد المحبة للمحبوب، فلا يُجب معه شيئاً. إن الإنسان لكفور مبين، حيث علم أن الحبيب الذي أنعم عليه واحد، وأنه غيور، لا يرضى لعبده أن يُحب معه غيره. قال القشيري: جعلوا الملائكة جزءاً على التخصيص من جملة مخلوقاته. ه. أي: جعلوا له جزءاً من عين الفرق، ولو نظرا بعين الجمع لرأوا الأشياء كلها متدفقة من بحر الجبروت. وفي الآية تحذير من كراهية البنات، حيث جعله من نعت أهل الكفر.
{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)} يقول الحق جلّ جلاله: {وقالوا لو شاء الرحمنُ} عدم عبادتنا للملائكة {ما عبدناهم}، أرادوا بذلك بيان أن ما فعلوه مَرْضِي عنده تعالى، ولولا ذلك ما خلّى بينهم وبينها، ويُجاب: بأنه تعالى قد يخلي بين العبد ومعصيته، لينفذ فيه ما سبق من درك الوعيد. وتعلقت المعتزلة بظاهر الآية في أن الله تعالى لم يشأ الكفر من الكفار، وإنما شاء الإيمان، فإنّ الكفار ادّعوا أن الله شاء منهم الكفر، وما شاء منهم ترك عبادة الأصنام، حيث قالوا: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} أي: لو شاء بنا أن نترك عبادة الأصنام لمَنَعَنَا عن عبادتها، لكنه لم يشأ ذلك. والله تعالى ردّ عليهم قولهم، واعتقادهم، بقوله: {ما لهم بذلك} القول {من علم إِن هم إِلا يَخْرُصُون}: يكذبون، ومعنى الآية عندنا: أنهم أرادوا بالمشيئة: الرضا، وقالوا: لو لم يرضَ بذلك لعجّل عقوبتنا، ولمَنعنا من عبادتها مع قهر واضطرار، وإذ لم يفعل ذلك فقد رضي بذلك، فردَّ الله عليهم بقوله: {ما لهم بذلك من علم...} الآية. أو: قالوا هذا القول استهزاء، لا جدّاً واعتقاداً، فأكذبهم وجهّلهم حيث لم يقولوه اعتقاداً، كما قالوا: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]. وهذا كلام حق أرادوا به باطلاً: انظر النسفي. قلت: ما تمسّكوا به من قوله: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} من الاحتجاج بالقدر، وهو لا ينفع هذه الدار، لأنه من التمسُّك بالحقيقة الخالية عن الشريعة، وهي بطالة وزندقة، ولذلك ردّهم الله تعالى إلى التمسُّك بالشريعة بقوله: {أم آتيناهم كتاباً مِن قبله}؛ من قبل القرآن، أو: من قبل ادعائهم ذلك، ينطق بصحة ما يدّعونه، {فهم به مسْتَمْسِكون}؛ آخذون. {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أُمّةٍ}؛ على دين وقلّدناهم. والأمّة في الأصل: الطريقة التي تؤمّ وتُقصد {وإِنا على آثارهم مُقتدون} أي: لم يأتوا بحجة نقلية ولا عقلية، ولا سند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم. والظرف: صلة لمهتدون، أو: هما خبران. {وكذلك ما أرسنا من قبلك في قريةٍ من نذيرٍ}؛ من نبيّ {إِلا قال مُترفوها} أي: منغّموها، وهم الذين أترفتهم النعمة، أي: أبطرتهم، فلا يُحبون إلا الشهوات والملاهي، ويعافون مشاقَّ الدين وتكاليفه، قالوا: {إِنا وجدنا آباءنا على أُمةٍ وإِنا على آثارهم مقتدون}، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وبيان أن التقليد فيهم ضلالٌ قديم. وتخصيص المترفين بتلك المقالة؛ للإذيان بأن التنعُّم بالشهوات، وحب البطالة، هو الذي صرفهم عن النظر إلى التقليد. {قُلْ}، هو حكاية لما جرى بين المنذرين وبين أممهم، عند تعللهم بتقليد آبائهم، أي: قيل لكل نذير وأوحي إليه: أن قُلْ، وليس خطاباً لنبينا- عليه الصلاة والسلام- بدليل ما بعده من قوله: {قالوا. ..} الخ. وقيل: خطاب له عليه الصلاة والسلام، فتكون الجملة معترضة بين قصة المتقدمين؛ لأن قوله: «قالوا» راجع للمتقدمين، وقرأ الشامي وحفص: {قال} أي: النذير: {أوَ لَو جئتُكُم} أي: أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم {بأهدى}؛ بدين أهدى {مما وجدتم عليه آباءكم} من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء؟ {قالوا إِنا بما أُرسلتم به كافرون} أي: قالت كل أمة لنذيرها: إنا ثابتون على ديننا، وإن جئتمونا بما هو أهدى وأهدى. وقد أجمل عند الحكاية؛ للإيجاز، كقوله: {يَأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]. {فانتقمنا منهم}؛ فعاقبناهم بما استحقوه على إصرارهم، {فانظر كيف كان عاقبةُ المكذِّبين} من الأمم المذكورين، فلا تكترث قومك. والله تعالى أعلم. الإشارة: وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، تمسّكوا بالحقيقة الظلمانية، الخالية عن التشريع، وهو كفر وزندقة، ولذلك ردّ الله عليهم بقوله: {أم آتيناهم كتاباً...} الخ، وترى كثيراً ممن خذله الله يقول: لو أراد الله هدايتي لهداني، ولا ينفع ذلك في هذه الدار، التي هي التكليف، بل يجب عليه النهوض، والقصد إلى أمر الله به، من حقوق العبودية، فإن منعته الأقدار فلينظر إلى الواحد القهّار، وإلا فالشقاء لازم له. وقد قالوا: مَن تحقق ولم يتشرّع فقد تزنذق، ومَن تشرَع ولم يتحقق فقد تفسّق، ومَن جمع بينهما فقد تحقّق. فالواجب: النظر إلى تصريف الحقيقة في الباطن، والتمسُّك بالشريعة في الظاهر. وبالله التوفيق. وقوله تعالى: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة...} الآية، فيه توبيخ لمَن تجمّد على تقليد أسلافه، وقد ظهر مَن هو أهدى منهم، ففيه نزعة جاهلية، وحمية من حميتهم.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)} يقول الحق جلّ جلاله: {وإِذ قال إبراهيمُ} أي: واذكر وقت قوله عليه السلام {ولأبيه وقومه} المُنكّبين على التقليد، كيف تبرأ مما هم فيه بقوله: {إِنني بَرَاء} أي: بريء {مما تعبدون}، وتمسك بالبرهان. وذكر قصته ليسلكوا مسلكه في الاستدلال، أو: ليقلدوه، إن لم يكن لهم بُد من التقليد؛ فإنه أشرف آبائهم. و«برَاء»: مصدر، يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، والمذكر والمؤنث، كرجل عدل، وامرأة عدل، وقوم عدل. و«ما»: إما مصدرية، أو: موصولة، أي: بريء من عبادتكم ومن معبودكم {إِلا الذين فَطَرَني}؛ استثناء متصل، أو: منقطع، على أن «ما» تعم أُولي العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام، او: صفة، على أن «ما» موصوفة، أي: إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي {فطرني}؛ خلقني {فإِنه سيَهدين}؛ يثبتني على الهداية، أو: سيهدين إلى ما وراء الذي هداني إليه الآن. والأوجه: أن السين للتأكيد دون التسويف، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار. {وجعلها} أي: وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد التي تكلّم بها، وهي قوله: {إِنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني}، {كلمة باقية في عَقِبهِ} أي: في ذريته، حيث وصَّاهم بها، كما نطق به قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ...} [البقرة: 132]، فلا يزال فيهم مَن يوحّد الله تعالى، ويدعوهم إلى توحيده. {لعلهم يرجعون} أي: جعلها باقية في ذريته رجاء أن يرجع إليها مَن أشرك منهم بدعاء الموحّد. {بل متعتُ هؤلاء}، ضراب عن محذوف، ينساق إليه الكلام، كأنه قيل: جعلها كلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجع إليها مَن أشرك منهم، فلم يحصل ما رجاه، بل متعتُ هؤلاء المعاصرين من أهل مكة. {وآباءهم} بالمد في العمر، والنعمة، والمهلة، فاغترُّوا بالمهلة، وانهمكوا في الشهوات، وشُغلوا بها عن كلمة التوحيد، {حتى جاءَهم الحقُّ}؛ القرآن {ورسولٌ مبينٌ}؛ ظاهر الرسالة، واضحها بالمعجزات الباهرة، أو: مبين التوحيد. بالآيات والحجج القاطعة. وفي الآية توبيخ لهم، فإن التمتع بزيادة النعم يُوجب أن يجعلوه سبباً لزيادة الشكر، والثبات على التوحيد والإيمان، فجعلوه سبباً لزيادة أقصى مراتب الكفر والضلال. وحاصل معنى الآية: أنه تعالى جعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم عليه السلام ليدعو الموحّد المشرك، نسلاً بعد نسل، فيرجع المشرك عن شركه، فلم يرجعوا، بل اغترُّوا بما مُتّعوا به، فاستمرّوا على الشرك حتى جاءهم الحق، فكفروا وأصرُّوا، {ولمَّا جاءهم الحقُّ} أي: القرآن يُنبههم على ما هم عليه من الغفلة، ويُرشدهم إلى التوحيد، ازدادوا كفراً وعُتواً، وضمُّوا إلى كفرهم السابق معاندة الحقوالاستهانة به، حيث {قالوا هذا سحر وإِنا به كافرون} فسَمّوا القرآنَ سحراً، وجحدوه ومَن جاء به. والله تعالى أعلم. الإشارة: كان إبراهيم عليه السلام إمام أهل التوحيد، لقوله تعالى: {إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124]، وجعل الدعوة إليه في عقبه إلى يوم القيامة، وهو على قسمين: توحيد البرهان، وتوحيد العيان. وقد جاءت بعده الرسل بالأمرين معاً، وقام بها خلقاؤهم بعدهم، فقام بالأول العلماء، وقام بالثاني خواص الأولياء، أهل التربية الحقيقية، ولا ينال من توحيد العيان شيئاً مَن علق قلبه بالشهوات الجسمانية، والحظوظ الفانية، كما قال الششتري رضي الله عنه: ترَكْنا حُظوظاً من حضيض لُحُوظنا *** مع المقصد الأقصى إلى المطلب الأسنى وكل مَن تمتع بذلك، وانهمك فيه حَرِمَ بركة صحبة العارفين؛ إذ يمنعه ذلك من حط رأسه، ودفع فلسه، فينخرط في سلك قوله تعالى: {بل متعتُ هؤلاء وآباءهم...} الآية. وكل زمان له رسول، خليفةً عن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الحق ومعرفته. وبالله التوفيق.
{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} يقول الحق جلّ جلاله: {وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآنُ على رَجُل من القريتين عظيم} أي: من إحدى القريتين؛ مكة والطائف، على نهج قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وعنوا بعظيم مكة: الوليد بن المغيرة، وبعظيم الطائف: عروة بن مسعود الثقفي. وعن مجاهد: عظيم مكة: عتبة بن ربيعة، وعظيم الطائف: ابن عبد ياليل. ولم يتفوّهوا بهذه العظيمة حسداً، بل استدلالاً على عدم نزوله، بمعنى: لو كان قرآناً لأُنزل على أحد هؤلاء، بناء على ما زعموا من أن الرسالة منصب جليل، لا يليق له إلا مَن له جلالة من جهة المال والجاه، ولم يدْروا أنها رتبة روحانية، لا يرتقى إليها إلا همم الخواص، المختصين بالنفوس الزكية، المؤيّدين بالقوة القدسية، المتحلّين بالفضائل الإنسية، وأما المتزخرفون بالزخارف الدنيوية، المتمتعون بالحظوظ الدنية، فهم من استحقاق تلك الرتبة بألف معزل. قال ابن عطية: وإنما قصدوا إلى مَن عظم ذكره بالسن، وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعظم هؤلاء؛ إذ كان المسمى عندهم الأمين. ه. ومرادهم: الشرف الدنيوي، بحيث يتعرض للأمور؛ ليُذكَر ويُشار إليه، ورسوله الله صلى الله عليه وسلم كان منزَّهاً عن ذلك من أول النشأة، كما هو حال أهل الآخرة، والنفوس في مهماتها إليهم أميلُ، وعليهم تعول، ولذلك كان أميناً عندهم، ولا ترضى جل النفوس أهل الفضول؛ لأماناتها، ولا تسكن إليها وتطمئن بها، وإنما تعظمها ظاهراً، لا حقيقة. وهذا كافٍ في الرد عليهم في أنهم لا يرضونهم لأماناتهم، لكيف يُرضون لأمانات الوحي. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} [الأنعام: 124]. قاله في الحاشية. وقوله تعالى: {أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ ربك}، إنكار عليهم، وفيه تجهيل لهم وتعجيب من تحكمِهم في اختيار مَن يصلح للنبوة. والمراد بالرحمة: النبوة. {نَحنُ قَسَمْنَا بينهم معيشتَهم}؛ ما يعيشون به، وهو أرزاقهم الحسية {في الحياة الدنيا} أي: لم نجعل قسمة الأدون إليهم، وهو رزق الأشباح، فكيف بالنبوة، والعلم، الذي هو رزق الأرواح؟ {ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجات} أي: جعلنا البعض أقوياء وأغنياء وموالي، والبعض ضعفاء وفقراء وخدماء، {ليتخذ بعضُهُم بعضاً سُخْرياً} أي: ليصرف بعضهم بعضاً في حوائجهم، ويستخدموهم في مهماتهم، ويُسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا، ويصلوا إلى أعمالهم، هذا بماله، وهذا ببدنه، ولو استووا في الغنى والفقر لبطل جُل المصالح، فسبحان المدبّر الحكيم. قال القشيري: لو كانت المقاديرُ متساويةٌ لَتَعَطلَت المعايشُ، ولَبَقي كلٌّ عند حاله، فجعل بعضَهُم مخصوصاً بالترفُّه والمال، وآخرين بالفقر ورقّة الحال، حتى احتاج الفقيرُ في حين حاجته أن يعمل للغنيِّ، ليترفّق من جهته بأجرته، فيصلُح بذلك أمر الفقير والغنيّ معاً. ه. ولو فوّضنا ذلك إلى تدبيرهم لهلكوا. وإذا كانوا في تدبير خويصة أمرهم، وما يصلحهم من متاع الدنيا الدنية، في غاية العجز، فما ظنهم في تدبير أمر الدين والنبوة؟!. وقيل: «سخريا» أي: يسخر بعضهم من بعض. {ورحمتُ ربك} أي: النبوة، أو: الدين وما يتبعه من الفوز في المآب، {خيرٌ مما يجمعون} أي: مما يجمعُ هؤلاء من حُطام الدنيا الدنية الفانية. الإشارة: مما جرى في طبع الناس أنهم لا يُقرون الولاية إلا فيمن عَظُمَ جاهُه، وكثر طعامه، أو كثرت صلاته، أو كان مجذوباً مصطلماً، أو: سبقت في أسلافه، وهذا خطأ، فإن الولاية سر من أسرار الله، أودعها قلوب أصفيائه، لا تظهر على جوارحهم، ولا تكون في الغالب إلا في أهل التجريد، وأهل الخمول، أخفاها الله في عابده، فمَن ادعاها من غير تجريد ولا تخريب، فهو مدّعٍ، ولذلك قال أبو المواهب رضي الله عنه: مَا ادّعى شهود الجمال، قبل تأدُّبه بالجلال، فارفضه فإنه دجال. ويقال لمَن أنكر على أهلها من أهل التجريد: {أهُم يقسمون رحمت ربك...} الآية، ورحمة ربك- هي سر الخصوصية- خير مما يجمعون. وقال القشيري على قوله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم...} الخ، بعد كلام: ثم إنه تعالى قَسَمَ لبعض عباده النعمةَ والغنى، ولقوم الفقر والقلّة، وجعل لكلّ واحدٍ منهم مسكناً يسكنون إليه، ويستقلُّون به، فللأغنياء وجود الأنعام، وجزيل الأقسام، فشكروا واستبشروا، وللفقراء شهودُ القَسَّام، فحَمدوا وافتخروا، فالأغنياء وجدوا النعمة فاستغنوا وانشغلوا، والفقراء سمعوا قوله: «نحن» فاشتغلوا، وفي الخبر: أنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: «أما تَرضَون أن يرجع الناس بالشاء والبعير، وترجعوا برسول الله إلى أهليكم؟ والله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون» ه. قوله تعالى: {نحن قسمنا بينهم...} الخ، قد سبقت أقسام الرزق قبل ظهور الخلق، فالواجب انتظار القسمة، والرضا بما قسم، كما قال الشاعر: اقنعْ بما قسم الرزّاق من قِسَم *** وسلّم الأمرَ فالرزاق مختارُ لا تجزعن ولا تبطَر على مِحَنٍ *** أو مِنَح، فإنما هي أحكام وأقدارُ واقنع بكل الذي يجري الزمانُ به *** ولا يكن منك للمغرور انكسارُ
|